فصل: الرحلة من الأندلس إلى بجاية وولاية الحجابة بها على الاستبداد.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الرحلة من الأندلس إلى بجاية وولاية الحجابة بها على الاستبداد.

كانت بجاية ثغرا لإفريقية في دولة بني أبي حفص من الموحدين ولما صار أمرهم للسلطان أبي يحيى منهم واستقل بملك إفريقية ولى في ثغر بجاية ابنه الأمير أبو زكريا وفي ثغر قسنطينة ابنه الأمير أبا عبد الله وكان بنو عبد الواد ملوك تلمسان والمغرب الأوسط ينازعونه في أعماله ويحجرون الكتائب على بجاية ويجلبون على قسنطينة إلى أن تمسك السلطان أبو بكر بذمة من السلطان أبي الحسن ملك المغرب الأوسط والأقصى من بني مرين وله الشفوف على سائر ملوكهم وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان فأخذ بمخنقها سنتين أو أزيد وملكها عنوة وقتل سلطانها أبا تاشفين وذلك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وخف ما كان على الموحدين من أمر بني عبد الواد واستقامت دولتهم ثم هلك أبو عبد الله ابن السلطان أبي يحيى بقسنطينة سنة أربعين وسبعمائة وخلف سبعة من الأولاد كبيرهم أبو زيد عبد الرحمن ثم أبو العباس أحمد فولى الأمير أبو زيد مكان أبيه في كفالة نبيل مولاهم ثم توفي الأمير أبو زكريا ببجاية سنة ست وأربعين وسبعمائة وخلف ثلاثة من الأولاد كبيرهم أبو عبد الله محمد وبعث السلطان أبو بكر ابنه الأمير أبا حفص عليها فمال أهل بجاية إلى الأمير أبي عبد الله بن زكريا وانحرفوا عن الأمير عمر وأخرجوه وبادر السلطان فرقع هذا الخرق بولاية أبي عبد الله عليهم كما طلبوه ثم توفي السلطان أبو بكر منتصف سبع وأربعين وسبعمائة وزحف أبو الحسن إلى إفريقية فملكها ونقل الأمراء من بجاية وقسنطينة إلى المغرب وأقطع لهم هنالك إلى أن كانت حادثة القيروان وخلع السلطان أبو عنان أباه وارتحل من تلمسان إلى فاس فنقل معه هؤلاء الأمراء أهل بجاية وقسنطينة وخلطهم بنفسه وبالغ في تكرمهم ثم صرفهم إلى ثغورهم الأمير أبا عبد الله أولا وإخوته من تلمسان وأبا زيد وإخوته من فاس ليستبدوا بثغورهم ويخذلوا الناس عن السلطان أبي الحسن فوصلوا إلى بلادهم وملكوها بعد أن كان الفضل ابن السلطان أبي بكر قد استولى عليها من يد بني مرين فانترعوها منه واستقر أبو عبد الله ببجاية حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بجبال المصامدة وزحف أبو عنان إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة فهزم ملوكها من بني عبد الواد وأبادهم ونزل المدية وأطل على بجاية وبادر الأمير أبو عبد الله للقائه وشكا إليه ما يلقاه من زبون الجند والعرب وقلة الجبابة وخرج له عن ثغر بجاية فلكها وأنزل عماله بها ونقل الأمير أبا عبد الله معه إلى المغرب فلم يزل عنده في كفاية وكرامة ولما قدمت على السلطان أبي عنان سنة خمس وخمسين وسبعمائة واستخلصني منه نبضت عروق السابق بين سلفي وسلف الأمير أبي عبد الله واستدعاني لصحابته فأسرعت وكان السلطان أبو عنان شديد الغيرة من مثل ذلك ثم كثر المنافسون ورفعوا إلى السلطان وقد طرقه مرض أرجف له الناس فرفعوا له أن الأمير أبا عبد الله اعتزم على الفرار إلى بجاية وأني عاقدته على ذلك على أن يوليني حجابته فانبعث له السلطان وسطا بنا واعتقلني نحوا من سنتين إلى أن هلك وجاء السلطان أبو سالم واستولى على المغرب ووليت كتابة سره ثم نهض إلى تلمسان وملكها من يد بني عبد الواد وأخرج منها أبا حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يغمراسن ثم اعتزم على الرجوع إلى فاس وولى على تلمسان أبا زيان محمد بن أبي سعيد عثمان ابن السلطان أبي تاشفين وأمده بالأموال والعساكر من أهل وطنه ليدافع أبا حمو عن تلمسان ويكون خالصة له وكان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية كما ذكرناه والأمير أبو العباس صاحب قسنطينة بعد أن كان بنو مرين حاصروا أخاه أبا زيد بقسنطينة أعواما تباعا ثم خرج لبعض مذاهبه إلى بونة وترك أخاه أبا العباس بها فخلعه واستبد بالأمر وخرج إلى العساكر المجمرة عليها من بني مرين فهزمهم وأثخن فيهم ونهض السلطان إليه من فاس سنة ثمان وخمسين وسبعمائة فتبرأ منه أهل البلد وأسلموه فبعثه إلى سبتة في البحر واعتقله بها حتى إذا ملك السلطان أبو سالم سبتة عند إجازته من الأندلس سنة ستين وسبعمائة أطلقه من الاعتقال وصحبه إلى دار ملكه ووعده برد بلده عليه.
فلما ولى أبو زيان على تلمسان أشار عليه خاضته ونصحاؤه بأن يبعث هؤلاء الموحدين إلى ثغورهم فبعث أبا عبد الله إلى بجاية وقد كان ملكها عمه أبو اسحق صاحب تلمسان ومكفول بن تافراكين من يد بني مرين وبعث أبا العباس إلى قسنطينة وبها زعيم من زعماء بنى مرين وكتب إليه السلطان أبو سالم أن يفرج له عنها فملكها لوقته وسار الأمير أبو عبد الله إلى بجاية فطال إجلابه عليها ومعاودته حصارها وألح أهلها في الامتناع منه مع السلطان أبي اسحق وقد كان لي المقام المحمود في بعث هؤلاء الأمراء إلى بلادهم وتوليت كبر ذلك مع خاصة السلطان أبي سالم وكتاب أهل مجلسه حتى تتم القصد من ذلك وكتب لي الأمير أبو عبد الله بخطه عهدا بولاية الحجابة متى حصل على سلطانه ومعنى الحجابة في دولنا بالمغرب الاستقلال بالدولة والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته لا يشاركه في ذلك أحد وكان لي أخ صغير اسمه يحيى أصغر مني فبعثه مع الأمير أبي عبد الله حافظا للرسم ورجعت مع السلطان إلى فاس ثم كان ما قدمته من إنصرافي إلى الأندلس والمقام بها إلى أن تنكر الوزير ابن الخطيب وأظلم الجو بيني وبينه.
وبينما نحن في ذلك وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية من يد عمه في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة وكتب لي الأمير أبو عبد الله يستقدمني فاعتزمت على ذلك ونكر السلطان أبو عبد الله ابن الأحمر ذلك مني لا لظنه سوى ذلك إذ لم يطلع على ما كان بيني وبين الوزير ابن الخطيب فأمضيت محرم ووقع منه الإسعاف والبر والألطاف وركبت البحر من مرسى المرية منتصف ست وستين وسبعمائة ونزلت بجاية لخامسة من الإقلاع فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي وأركب للقائي وتهافت أهل البلد علي من كل أوب يمسحون أعطافي ويقبلون يدي وكان يوما مشهودا.
ثم وصلت إلى السلطان فحيا وفدى وخلع وحمل وأصبحت من الغد وقد أمر السلطان أهل الدولة بمباكرة بابي واستقللت بحمل ملكه واستفرغت جهدي في سياسة أموره وتدبير سلطانه وقدمني للخطابة بجامع القصبة وأنا مع ذلك عاكف بعد انصرافي من تدبير الملك غدوة إلى تدريس العلم أثناء النهار بجامع القصبة لا أنفك عن ذلك ووجدت بينه وبين ابن عمه السلطان أبي العباس صاحب قسنطينة فتنة أحدثتها المشاحة في حدود الأعمال من الرعايا والعمال وشبت نار هذه الفتنة بعرب أوطانهم من الزواودة من رياح تنفيقا لسوق الزبون يميرون به أموالهم فكانوا في أهم شقة بجمع بعضهم لبعض فالتقو سنة ست وستين وسبعمائة بفدحيوه وانقسم العرب عليهما وكان يعقوب بن علي مع السلطان أبي العباس فانهزم السلطان أبو عبد الله ورجع إلى بجاية مفلولا بعد أن كنت جمعت له أموالا كثيرة أنفق جميعها في العرب ولما رجع وأعوزته النفقة خرجت بنفسي إلى قبائل البربر بالجبال الممتنعين من المغارم منذ سنين فدخلت بلادهم واستبحت حماهم وأخذت رهنهم على الطاعة حتى استوفيت منهم الجباية وكان لنا في ذلك مدد وإعانة ثم بعث صاحب تلمسان إلى السلطان يطلب منه الصهر فأسعفه بذلك ليصل يده به على ابن عمه وزوجه ابنته ثم نهض السلطان أبو العباس سنة سبع وستين وسبعمائة وجاس أوطان بجاية وكاتب أهل البلد وكانوا وجلين من السلطان أبي عبد الله لما كان يرهف الحد لهم ويشد وطأته عليهم فأجابوه إلى الانحراف عنه وخرج الشيخ أبو عبد الله يروم مدافعته ونزل جبل إيزو معتصما به فبيته السلطان أبو العباس في قبائل وجموع الأعراب من أولاد محمد من رياح بمكانه ذلك بإغراء ابن صخر وقبائل سدوبكش وكبسه في محيمه وركض هاربا فلحقه وقتله وسار إلى البلد بمواعدة أهلها وجاءني الخبر بذلك وأنا مقيم بقصبة السلطان بقصوره وطلب مني جماعة من أهل البلد القيام بالأمر والبيعة لبعض أبناء السلطان فتفاديت من ذلك وخرجت إلى السلطان أبي العباس فأكرمني وحياني وأمكنته من بلده وأجرى أحوالها كلها على معهودها وكثرت السعاية عنده في والتحذير من مكاني وشعرت بذلك فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك فأذن لي بعدما أبى وخرجت إلى العرب ونزلت على يعقوب بن علي ثم بدا له الشأن في أمري وقبض على أخي واعتقله ببونة وكبس بيوتنا فظن بها ذخيرة وأموالا فأخفق ظنه ثم ارتحلت من أحياء يعقوب بن علي وقصدت بسكرة لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزنى وبين أبيه فأكرم وبر وساهم في الحادث بماله وجاهه والله أعلم.